بين الظل وتشيخوف: رحلة الفقد إلى الحياة
كتبت غايل رأفت عامر
حين فقدت أمي، شعرت بأن العالم كله توقف عن الحركة. خطواتي الثقيلة تتردد في الفراغ وكأنها مرآة لألمي، كأن الأرض نفسها ترفض أن أتحرك. ظلّي كان كل ما تبقى معي، صامتًا، شاهدًا على حزني العميق، كأنه يعرف أن أي انفصال عنه سيجعلني أغرق في وحدتي بلا رجعة. كنت أسأل نفسي: هل يعرف كم حاولت أن أهرب من نفسي؟ كم أبطأت أملاً أن يتركني وحدي؟ لكنه ظل هناك، ثابتًا، كأنه جزء من كياني، جزء من العالم الذي فقدت فيه الأمان.
هربت إلى نصوص تشيخوف، إلى عالمه الذي يعكس الإنسان بكل هشاشته وبؤسه، لكنه يمنح فرصة للمعنى في التفاصيل اليومية. في “السهوب”، في “الأسقف”، في “موت موظف”، وجدت صورًا لأشخاص يواجهون الموت والفقد، يضحكون ويبكون في آن واحد، يعيشون تفاصيل الحياة بكل ما فيها من ألم وجمال. كل قصة كانت كمرآة، تجعلني أرى الألم والفرح معًا، تجعلني أفهم كيف يمكن للإنسان أن يستمر رغم الخسارة واليأس.
تشيخوف لم يحول الموت أو الفقد إلى حدث درامي مفرط، بل قدمه كجزء طبيعي من الحياة اليومية. الطبيعة في قصصه صامتة لكنها صادقة، تحمل الموت والحياة معًا. كل قطرة مطر، كل انعكاس ضوء في الزقاق، كل صوت بعيد، يشبه ما شعرت به وأنا أقرأه: تفاصيل صغيرة تجعل الحياة غنية ومكتملة رغم الألم.
في نصوصه، تظهر هشاشة الإنسان ووحدته، لكنها تكشف أيضًا عن قدرة الروح على التعافي. المرأة في أعماله ضعيفة، لكنها تبحث عن البقاء، عن معنى في عالم يسيطر عليه الظلم والطبقية، عن حياة تمثل أكثر من مجرد البقاء على قيد الحياة. الرجال في قصصه يكررون نفس الأخطاء، يسعون وراء ملذات بسيطة، لكنهم أيضًا بشر يختبرون الحب والخوف والحنين.
من صفحات تشيخوف تعلمت كيف ألاحظ الناس حولي، كيف أرى الحياة بعيون جديدة، كيف يمكن للمرء أن يجد المعنى في أصغر الأشياء: ضحكة طفل، رائحة الخبز، ورقة شجر تسقط على الطريق، حتى في أصعب اللحظات. أدبه علمني أن الألم جزء من الحياة، لكن لا يجب أن يحجبنا عن رؤية الجمال فيها، وأن الصبر والملاحظة والانتباه للتفاصيل يمكن أن يعيدا للروح حياتها.
الجيل الجديد يختلف، يتعامل مع الواقع بالسخرية والوعي، يبحث عن المتعة عبر التكنولوجيا، لكنه يبقى بحاجة إلى لحظات التأمل التي يقدمها تشيخوف، إلى رؤية الحياة في تفاصيلها الصغيرة والمعقدة في الوقت نفسه. مع مرور الأيام، بدأت أرى العالم من حولي بشكل مختلف، أصبح الظل مرافقًا لتعلّمي، وأصبحت كل لحظة صغيرة مصدر أمل.
من أعماق الألم والفقد، ومن صفحات تشيخوف، خرجت لأدرك أن الحب والانتباه للتفاصيل اليومية يمكن أن يكون نورًا يقودني نحو المستقبل، وأن الموت والفقد، رغم مرارتهم، أصبحوا جزءًا من الحياة التي أعيشها الآن. أدب تشيخوف كان لي مرآة، وسلاحًا، وطريقًا لفهم نفسي والعالم، وعلمني أن الحياة تستحق أن تُعاش في كل لحظة، مهما كانت صغيرة، مهما كانت صعبة، وأن الألم هو جزء من الرحلة التي تعيدنا إلى الذات والحياة من جديد.