رحلة في روح موسكو: طفلة تبحث عن الحرية بين الأدب والحياة
كتبت: إيفا غسان جواد
في صباح موسكو المغطى بضباب خفيف، تمشي الفتاة بعينين واسعتين كسماء الشتاء، وكأنها تلمس المدينة لأول مرة. كل حجر على الرصيف، كل ظل يتسلل بين الأعمدة، وكل همسة من الهواء البارد تحمل صدى موسيقى قديمة، من بيتهوفن إلى ديبوسي، وكأن الشوارع كلها تعزف على أوتار قلبها. موسكو ليست مجرد مدينة، إنها عالم كامل تتنفسه روحها، مسرح حيث تتشابك الطفولة بالبلوغ، والخيال بالواقع، والبراءة بالتمرد. مع مرور الأيام، بدأت الفتاة تدرك أن موسكو ليست مجرد مزيج من المباني والأنهار والفنون، بل هي مدرسة للحياة، وكأن كل زاوية فيها تحوي درسًا عن الحرية، عن القيم، وعن الصراع بين الرغبة في الحب وبين التقاليد التي تحاصرها. هنا، في قلب روسيا، اكتشفت الفتاة مفهوماً أعمق للحرية: ليست مجرد فعل خارجي، بل صراع داخلي دائم، بين الانعتاق الروحي وبين القيود الاجتماعية، بين الطموح الفردي وبين المسؤولية تجاه الآخرين.
كان الأدب الروسي رفيقها الدائم في هذه الرحلة. بين صفحات دوستويفسكي وصرخات فراسكولنيكوف ومرارة ضميره، تعلمت أن الحرية الحقيقية تبدأ بالوعي الداخلي، بالقدرة على مواجهة الحقيقة، حتى لو كانت قاسية. بين سطور تولستوي وصدمة آنا كارينينا، أدركت أن الحب والمعاناة والانتظار جزء من معنى الحياة، وأن الحرية ليست التمرد على كل شيء، بل فهم مكانك في العالم واختيار مسارك بشجاعة. الفلسفة الروسية، من بولغاكوف إلى شستوف، علمتها أن الحرية الحقيقية تتطلب التوازن بين الحدس الروحي والعقلانية الوجودية، بين الذات والكون، وبين الفرد والمجتمع. لقد أصبح لديها وعي بأن الحرية في روسيا لا تُقاس فقط بالحقوق القانونية أو التصرفات الفردية، بل بقدرة الإنسان على مواجهة التحديات الأخلاقية، على التحلي بالشجاعة الروحية، وعلى حماية كرامة الآخرين.
من خلال تأمل تاريخ روسيا، فهمت الفتاة أن خصوصية الحضارة الروسية تكمن في الجمع بين الانتماء للأرض والوعي بالتاريخ، بين الجغرافيا والسياسة، بين الفرد والمجتمع. الحرية هنا ليست حقاً يُمارس فقط، كما في الغرب، بل مسؤولية يجب أن يتحملها كل فرد تجاه الآخرين والوطن. إنها حرية الروح، قدرة الإنسان على الحفاظ على هويته وقيمه وسط تقلبات العالم، وعلى مواجهة الشر والظلم بالحكمة والشجاعة. وفي المقارنة مع الحضارة الغربية، لاحظت الفتاة فروقاً جوهرية: في الغرب، منذ النهضة الأوروبية وحتى النظام الرأسمالي المعاصر، الحرية الفردية غالباً ما ارتبطت بالحق في التصرف دون قيود، بالسيطرة على الموارد، وبالتفوق الاقتصادي والعسكري. أما في روسيا، فهي حرية مرتبطة بالمسؤولية الأخلاقية والروحية، بالوعي بالقيم الجماعية والتاريخية، بالقدرة على التوازن بين الحرية الشخصية والواجب تجاه المجتمع.
مع مرور الوقت، بدأت الفتاة تصنع قيمها الخاصة، مستلهمة من الأدب والفلسفة الروسيين، ومقارنتها بتجربة الغرب. فهمت أن الحرية الحقيقية ليست التمرد على كل شيء، بل القدرة على اتخاذ قرارات واعية، على الحب بصدق، على مواجهة المعاناة بصبر، وعلى البحث عن العدالة والكرامة الإنسانية. كل نافذة في موسكو، كل شارع، كل انعكاس على مياه نهر نيفا، أصبح مدرسة للحرية والقيم. كل خطوة نحو الجمال هي مواجهة للحقيقة، وكل نبضة قلب هي صراع بين الرغبة في الحب والعادات والتقاليد التي تحاصرها. والفتاة، رغم كبرها، ما زالت تحمل روح الطفلة التي اكتشفت معنى الحرية لأول مرة بين الشوارع المغطاة بالضباب، بين الكتب، بين الموسيقى، بين الفن، حيث تلتقي البراءة بالتمرد، وتصبح الحياة نفسها رواية مستمرة، عنوانها الحرية الحقيقية، وموضوعها القيم الإنسانية العميقة. في النهاية، يتضح أن موسكو، بروحها وتاريخها وأدبها وفلسفتها، تقدم نموذجاً فريداً للحرية: حرية الفرد ضمن مسؤولية اجتماعية وروحية، حرية العقل ضمن وعي بالقيم والتاريخ، وحرية الروح ضمن التزام أخلاقي. بالمقارنة مع الغرب، حيث الحرية غالباً ما تُفهم كحق منفصل عن الواجب، تقدم روسيا رؤية أكثر عمقاً للحرية كصياغة واعية للقيم، وإدراك للهوية، وقدرة على مواجهة الواقع بروح متماسكة ومستنيرة.